الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
وقال القتبي: إنها الرؤيا الكاذبة، وفية قول الشاعر: وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل. وقد مضى هذا في يوسف. فلما رأوا أن الامر ليس كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا: {بَلْ قالُوا} ثم انتقلوا عن ذلك فقالوا: {بَلْ هُوَ شاعِرٌ} أي هم متحيرون لا يستقرون على شي: قالوا مرة سحر، ومرة أضغاث أحلام، ومرة افتراه، ومرة شاعر.وقيل: أي قال فريق إنه ساحر: وفريق إنه أضغاث أحلام، وفريق إنه افتراه، وفريق إنه شاعر. والافتراء الاختلاق، وقد تقدم.{فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها من الآيات ومثل ناقة صالح. وكانوا عالمين بأن القرآن ليس بسحر ولا رؤيا ولكن قالوا: ينبغي أن يأتي بآية نقترحها، ولم يكن لهم الاقتراح بعد ما رأوا آية واحدة. وأيضا إذا لم يؤمنوا بآية هي من جنس ما هم أعلم الناس به، ولا مجال للشبهة فيها فكيف يؤمنون بآية غيرها، ولو أبرأ الأكمه والأبرص لقالوا: هذا من باب الطب، وليس ذلك من صناعتنا، وإنما كان سؤالهم تعنتا إذ كان الله أعطاهم من الآيات ما فيه كفاية. وبين الله عز وجل أنهم لو كانوا يؤمنون لأعطاهم ما سألوه لقوله عز وجل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]. قوله تعالى: {ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ} قال ابن عباس: يريد قوم صالح وقوم فرعون. {أَهْلَكْناها} يريد كان في علمنا هلاكها: {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} يريد يصدقون، أي فما آمنوا بالآيات فاستؤصلوا فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا، لما سبق من القضاء بأنهم لا يؤمنون أيضا، وإنما تأخر عقابهم لعلمنا بأن في أصلابهم من يؤمن: و{من} زائدة في قوله: {مِنْ قَرْيَةٍ} كقوله: {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} [الحاقة: 47]:
وقال الكلبي: والجسد هو المتجسد الذي فيه الروح يأكل ويشرب، فعلى مقتضى هذا القول يكون ما لا يأكل ولا يشرب جسما وقال مجاهد: الجسد ما لا يأكل ولا يشرب، فعلى مقتضى هذا القول يكون ما يأكل ويشرب نفسا ذكره الماوردي. قوله تعالى: {ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ} يعني الأنبياء، أي بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم. {وَمَنْ نَشاءُ} أي الذين صدقوا الأنبياء. {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} أي المشركين. قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً} 10 يعني القرآن. {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} 10 رفع بالابتداء والجملة في موضع نصب لأنها نعت لكتاب، والمراد بالذكر هنا الشرف، أي فيه شرفكم، مثل {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]. ثم نبههم بالاستفهام الذي معناه التوقيف فقال عز وجل: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}.وقيل: فيه ذكركم أي ذكر أمر دينكم، وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب وعقاب، أفلا تعقلون هذه الأشياء التي ذكرناها؟! وقال مجاهد: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ 10} أي حديثكم.وقيل: مكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم.وقال سهل بن عبد الله: العمل بما فيه حياتكم. قلت: وهذه الأقوال بمعنى والأول يعمها، إذ هي شرف كلها، والكتاب شرف لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه معجزته، وهو شرف لنا إن عملنا بما فيه، دليله قوله عليه السلام: «القرآن حجة لك أو عليك».
ومنه الحديث: «فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا». وقوله: {كانَتْ ظالِمَةً} أي كافرة، يعني أهلها. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الايمان. {وَأَنْشَأْنا} أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم {قَوْماً آخَرِينَ}. {فَلَمَّا أَحَسُّوا} أي رأوا عذابنا، يقال: أحسست منه ضعفا.وقال الأخفش: {أَحَسُّوا} خافوا وتوقعوا. {إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ} أي يهربون ويفرون. والركض العدو بشدة الوطي. والركض تحريك الرجل، ومنه قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] وركضت الفرس برجلي استحثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا وليس بالأصل، والصواب ركض الفرس على ما لم يسم فاعله فهو مركوض. {لا تَرْكُضُوا} أي لا تفروا.وقيل: إن الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم وقالت: {لا تَرْكُضُوا}. {وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، والمترف المتنعم، يقال: أترف على فلان أي وسع عليه في معاشه. وإنما أترفهم الله عز وجل كما قال: {وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} [المؤمنون: 33]. {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم، استهزاء بهم، قاله قتادة.وقيل: المعنى {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به.وقيل: المعنى {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول البأس بكم، قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا وتوبيخا. {قالُوا يا وَيْلَنا} لما قالت لهم الملائكة: {لا تَرْكُضُوا} ونادت يا لثارات الأنبياء! ولم يروا شخصا يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فعند ذلك قالوا {يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع الاعتراف. {فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ} أي لم يزالوا يقولون: {يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ}. {حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً} أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، قاله مجاهد.وقال الحسن: أي بالعذاب. {خامِدِينَ} أي ميتين. والخمود الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد طفئ تشبيها بانطفاء النار.
وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهى للقلب، كما قال: الجوهري- وقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} قالوا امرأة ويقال: ولدا. {لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا} أي من عندنا لا من عندكم. قال ابن جريج: من أهل السماء لا من أهل الأرض. قيل: أراد الرد على من قال إن الأصنام بنات الله، أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا.وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى. {إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ} قال قتادة ومقاتل وابن. جريج والحسن: المعنى ما كنا فاعلين، مثل {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 23] أي ما أنت إلا نذير. و{أَنْ} بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله: {لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا}.وقيل: إنه على معنى الشرط، أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد، إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا.وقيل: لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم، لان الإرادة قد تتعلق بالتبني فأما اتخاذ الولد فهو محال، والإرادة لا تتعلق بالمستحيل، ذكره القشيري. قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ} القذف الرمي، أي نرمي بالحق على الباطل. {فَيَدْمَغُهُ} أي يقهره ويهلكه. واصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد، قال: وكل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان.وقيل: الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره.وقيل: أراد بالحق الحجة، وبالباطل شبههم.وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي، والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. {فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} أي هالك وتالف، قاله قتادة. {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الرب بما لا يجوز وصفه.وقال ابن عباس: الويل واد في جهنم، وقد تقدم. {مِمَّا تَصِفُونَ} أي مما تكذبون، عن قتادة ومجاهد، نظيره: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] أي بكذبهم.وقيل: مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد.
|